في السنوات الأخيرة، أصبحت مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب من المحاور الجوهرية التي تهتم بها الحكومات والشركات والمؤسسات على حدّ سواء، ليس فقط من باب الامتثال التشريعي، بل لحماية الاقتصاد والمجتمع من التهديدات التي تُسبّبها الأموال غير المشروعة. ولم تعد هذه المسؤولية حكرًا على البنوك والمؤسسات المالية، بل امتدّ نطاق الالتزام ليشمل شركات المقاولات، وشركات التكنولوجيا والشركات العقارية وشركات التاجير التمويلي وشركات التأمين ، وسواها من القطاعات الأقتصادية، وعليه بات على الشركات أن تقيّم ذاتها، وتراجع إجراءاتها، وتُطوّر من أدواتها الرقابية، وتعمل على تدريب كوادرها، وذلك ليس فقط لتجنّب العقوبات، بل لحماية نفسها من التورط غير المقصود في جرائم مالية، وهي خطوة أستباقية تمكن الشركات من كشف نقاط الضعف في نظام الامتثال بالإضافة الى أنه يجب على الشركات والمؤسسات أن يكونوا جزءًأ من مكافحة جرائم غسل الاموال ، إذ أن التزامها بالمعايير واللوائح التنظيمية يساعد على حماية أقتصاد المملكة من المخاطر التي تظهر عند تدفق الأموال غير المشروعة وأن ألتزامها يعكس دورها الاخلاقي في حماية الأقتصاد والمجتمع من التهديدات الناجمة عن هذه الجريمة ويعزز ثقة المستثمرين والعلماء مما يساهم في خلق بيئة مالية أكثر أستقراراً ونزاهة.
أهمية التقييم الذاتي في مكافحة غسل الأموال
يعد التقييم الذاتي من الأدوات الأساسية التي تمكن الشركات من فحص مدى امتثالها لمتطلبات مكافحة غسل الأموال، وتحديد نقاط الضعف المحتملة قبل أن تتحول إلى مخاطر حقيقية،وقيام الشركة بمراجعة سياساتها وإجراءاتها الداخلية ، وأدواتها الرقابية والتقنية ودرجة التزام موظفيها بهدف:
- التأكد من الامتثال للتشريعات الوطنية مثل قانون مكافحة غسل الاموال وتمويل الارهاب.
- رصد أية فجوات أو مخاطر محتملة قد تُعرّض الشركة للتورط – عن قصد أو غير قصد – في عمليات غسل أموال .
- تقييم فعالية إجراءات “اعرف عميلك” (KYC) والعناية الواجبة (CDD).
- التعرف على سلوكيات قد تشير إلى وجود نشاطات مالية مشبوهة.
- وتوصي مجموعة العمل المالي الدولية (FATF) بأن تقوم المؤسسات، المالية وغير المالية، بإجراء تقييم ذاتي دوري لمخاطر غسل الأموال، بما يتناسب مع حجم وطبيعة نشاطها.
كما أن فرض سياسات التقييم الذاتي والتأكد من الألتزام بالقوانين لمكافحة غسل الأموال يؤدي ذلك لمنع أستغلال الشركات كواجهات للأنشطة غير القانونية ومراقبة العمليات المالية والتحقق من مصادر الأموال ويكشف أي تحركات مشبوهة ويحد من تدفق الأموال غير المشروعة .
كيف يُطبّق التقييم الذاتي في الشركات الأردنية؟
رغم أن بعض الشركات ترى أن الامتثال مسؤولية تقع على قسم الشؤون القانونية أو المالية فقط، إلا أن الثقافة الحديثة في الإدارة تؤكد أن الامتثال يجب أن يكون مسؤولية جماعية تشمل:
- الإدارة العليا: بدعم واضح وصريح لإجراءات التقييم والامتثال .
- الموظفين التنفيذيين: من خلال تطبيق السياسات على أرض الواقع .
- وحدات التدقيق الداخلي والامتثال: لضمان الرقابة المستمرة والتقييم المنتظم.
ويكون التقييم الذاتي للشركات من خلال مراجعة شاملة للسياسات الداخلية الخاصة بغسل الاموال ، نماذج التعرف على العملاء والمتعاقدين "أليات العناية الواجية"، تدريب الموظفين على أليات كشف غسل الأموال والأبلاغ عن الأنشطة المريبة لكونه يعزز من قدرات الشركات على التصدي لهذه الجريمة، أختبار قدرة أنظمة الكشف عن العمليات المشبوهة مثل (برامج مراقبة المعاملات) ، واستبيانات داخلية وورش عمل تقييم للموظفين ،ومراقبة العمليات المالية والتحقق من مصادر الأموال ، وتطبيق إجراءات العناية الواجبة عند التعامل مع العملاء والشركاء التجاريين ، وإصدار تقرير تقييم داخلي يُرفع للإدارة العليا.
القيمة الاستراتيجية للتقييم الذاتي:
قد تتساءل بعض الشركات بأنه ما الفائدة المباشرة من إجراء هذا التقييم ؟والإجابة ببساطة “إن الشركات التي تقيم نفسها ذاتيًا بانتظام تقلل من فرص استخدامها كأداة لغسل الأموال دون علمها، وتحمي سمعتها، وتبني ثقة الشركاء والمستثمرين ويحسّن من القدرة على التفاعل مع الجهات الرقابية بكفاءة وشفافية"، بالإضافة الى حماية اسم الشركة من التشهير والإدراج في القوائم السلبية، وجذب المستثمرين والشركاء من المؤسسات الدولية التي تشترط الامتثال، والحماية القانونية للشركات بشكل عام .
تضمين سياسات الأمتثال ومكافحة غسل الأموال في العقود:
من أبرز مظاهر الوعي المؤسسي هو تضمين سياسات مكافحة غسل الأموال في العقود، وفي ظل مايشهده العالم من تشديد رقابي وازدياد حالات مساءلة الشركات عن تصرفات المتعاقدين معها وخصوصًا العقود المؤقتة منها، لذا من الحكمة أن تحتوي العقود على بند واضح يُلزم الطرف الآخر باتباع إجراءات مكافحة غسل الأموال، لأن ذلك يعتبر من ضمن الجهود المبذولة لتعزيز حماية الشركات من مخاطر غسل الاموال وأهمية تضمين متطلبات الأمتثال في جميع أشكال العلاقات التعاقدية .
* نموذج بند يُنصح بإدراجه في العقود المؤقتة
"يتعهّد الطرف الثاني بالامتثال لكافة الأنظمة والسياسات الداخلية للشركة ذات الصلة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويُعدّ أي إخلال بهذا الالتزام سببًا مباشرًا لإنهاء العلاقة التعاقدية وتحميل الطرف المخالف المسؤولية القانونية كاملة".
لضمان تطبيق فعّال لثقافة التقييم الذاتي في بيئة العمل، أنصح الشركات الأردنية بما يلي:
- صياغة سياسة داخلية ومحدثة لمكافحة غسل الأموال داخل الشركة.
- تعيين مسؤول امتثال مختص أو جهة رقابية داخلية فعّالة.
- إعداد نماذج وتعهدات توقع من جميع المتعاملين مع الشركة وعلى سبيل المثال لا الحصر نموذج ينصح بإدراجه في العقود ("يتعهّد الطرف الثاني بالامتثال لكافة الأنظمة والسياسات الداخلية للشركة ذات الصلة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويُعدّ أي إخلال بهذا الالتزام سببًا مباشرًا لإنهاء العلاقة التعاقدية وتحميل الطرف المخالف المسؤولية القانونية كاملة").
- إجراء التقييم الذاتي دوريًا – على الأقل سنويًا.
- تدريب الموظفين على الإجراءات والمخاطر وأسلوب الإبلاغ.
- استخدام أنظمة تحليل بيانات لرصد أي نشاطات مالية غير اعتيادية.
- الاحتفاظ بسجل يتضمن معلومات المستفيد الحقيقي، والافصاح عنه وعن أي تغيير يطرأ على بياناته خلال ثلاثين يوم عمل من حصول التغيير أو توثيق التغيير لدى الدائرة ، وللمراقب طلب أي من الوثائق والمعلومات اللازمة التي تمكنه من التحقق من صحة المعلومات المقدمة من الشركة "المادة 273 /أ مكرر من قانون الشركات".
في عالم يشهد تحولات كبيرة في المجال المالي والرقابي ، لايمكن لأي شركة أن تضمن أستدامتها دون التزام فعلي وقوي بمكافحة غسل الأموال ، ويعد التقييم الذاتي أحد أهم الأسلحة الوقائية التي تحمي الشركات من التورط ، وتؤسس لثقافة الأمتثال وتبني جداراً من الثقة مع المجتمع المالي ،كما أن التقييم الذاتي في مجال مكافحة غسل الاموال لا يجب أن يكون إجراءً شكلياً أو رد فعل لضغوط الرقابة ، بل هو جزء جوهري من ثقافة الأمتثال المؤسسي .
“المؤسسة التي تُراقب نفسها، تُجنّب نفسها كثيرًا من الكوارث"
*المحامي محمد سمور العفيشات
المستشار القانوني في الامتثال ومكافحة غسل الأموال
Copyright 2025 © GEEL TECH . All Right Reserved
Share This News